
وتأتي منزلة كتاب «الإشراف» في كونه يمثل مرحلة متقدمة في مشروع القاضي عبد الوهاب في تقريب الفقه المالكي، وذلك بعد المرحلة الأولى التي يمثلها كتاب «التلقين»، الموجه أساسا للمبتدئين الذي اقتصر فيه على القول المختار، ثم المرحلة الثانية مع كتاب «المعونة» الموجه للشادِين في الفقه، الذي لم يكثر فيه من الأدلة واقتصر على الواحد والاثنين، ثم في مرحلة ثالثة «الإشراف» الذي جمع فيه ما يمكن الاحتجاج به، وأورد فيه من الاستدلال بالآثار على اختلافها، والأقيسة بكل أنواعها، والتعليلات والأدلة التي يعتمد عليها للاستنباط في المذهب ما يطمئن القارئ إلى سلامة اختياره، بحيث أصبح عمدة المالكية، وكذلك مصدرا لمعرفة المذاهب الأخرى، وقد طاف هذا الكتاب الأرض منذ عصر مؤلفه ودخل أقصى بلاد المغرب والأندلس على يد القاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي(ت474هـ) مع طائفة من كتبه الأخرى.
واستمرت هذه العناية بهذا الكتاب الجليل إلى عصرنا حيث كان الكتاب موضوع دراسات وأبحاث جامعية، فعمل الدكتور محمد الروكي على استخراج القواعد الفقهية منه في بحثه المسمى«القواعد الفقهية من خلال كتاب الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي»، والدكتور محمد بن المدني الشنتوف في كتابه«القواعد الأصولية عند القاضي عبد الوهاب البغدادي من خلال كتابه الإشراف على مسائل الخلاف»، وكذلك عمل الدكتور بدوي عبد الصمد الطاهر صالح على تخريج أحاديثه، في كتابه«الإتحاف بتخريج أحاديث الإشراف».
++++++++++++++++++++++++
القاضي عبد الوهاب بن علي البغدادي أحد أعلام المذهب المالكي، ولد في بغداد، ونشأ بها، وتلقى العلم فيها عن أفاضل شيوخها، ووالده كان من العلماء ببغداد، واخوه كان اديبا مشهورا. له مؤلفات مشهورة، المطبوع منها هي: 1- الاشراف في نكت مسائل الخلاف، بتحقيق الحبيب بن طاهر - طبع في دار ابن حزم 2- المعونة في مذهب عالم المدينة، تحقيق عبد الحق حميش 3- شرح رسالة ابن ابي زيد القيرواني ، ويعد شرحه هذا من فرائد الشروح لهذه الرسالة 4 - التلقين في الفقه المالكي 5 - الملخص في أصول الفقه.
- أبو القاسم بن الجلاب: شيخ المالكية الإمام الفقيه الأصولي الحافظ، الذى تفقه بدوره على أبي بكر الأبهري. قالوا "وما خلف الأبهري في بغداد في المذهب مثله"، تفقه به القاضي عبد الوهاب وغيره من الأئمة له كتاب في مسائل الخلاف، وكتاب التفريع في المذهب، توفي سنة (378هـ).
- القاضي أبو الحسن ابن القصار: كان ثقة أصوليا نظاراً, شيخ المالكية في عصره, تفقه على يد أبي بكر الأبهري وغيره, ودرس عنده القاضي عبد الوهاب, تولى قضاء بغداد, وله كتاب في مسائل الخلاف،قالوا: "لا يعرف للمالكيين كتاب في الخلاف أكبر منه"، توفي سنة (397هـ).
ـ القاضي أبو بكر الباقلاني: محمد بن الطيب بن محمد، المعروف بالباقلاني البصري المالكي الأصولي, من أهل البصرة وسكن بغداد, كان أوحد زمانه، انتهت إليه رئاسة المالكية بالعراق في عصره، وكان أعرف الناس بالكلام، تفقه على يد أبي بكر الأبهري, ودرس عليه القاضي عبد الوهاب الفقه والأصول والكلام وصحبه، حتى قال فيه: (والذي فتح أفواهنا، وجعلنا نتكلم أبو بكر ابن الطيب) توفي رحمة الله سنة (403هـ)
كما أن القاضي عبد الوهاب سمع من الأبهري، (أبو بكر الأبهري : محمد بن عبد الله بن صالح التميمي) وحدث عنه وأجازه، وهو شيخ كل من سلف ذكرهم إذ انتهت إليه رئاسة المذهب، ونشر مذهب مالك في العراق، قيل فيه : لم يعط أحد من العلم والرياسة ما أعطي الأبهري في عصره من الموافقين والمخالفين، له تصانيف في شرح مذهب مالك والاحتجاج له والرد على من خالفه، توفي ببغداد في شوال سنة 375هـ
وقد تتلمذ على يد القاضي عبد الوهاب علماء كثيرون من مختلف الأوطان والمذاهب، ولعل من أبرزهم
- الخطيب البغدادي: أبو بكر أحمد بن علي الحافظ، أحد الأئمة الأعلام المفتي الحافظ الناقد محدث الوقت، ولد سنة (392هـ)، سمع الحديث من القاضي عبد الوهاب، قال في ذلك: "كتبت عنه، ولم نلق من المالكيين أحداً أفقه منه"، توفي سنة (463هـ)
- أبو إسحاق الشيرازي: إبراهيم بن علي بن يوسف الشافعي، ولد بفيروزآباد قرية من قرى شيراز سنة (393هـ) دخل بغداد وله اثنتان وعشرون سنة فاستوطنها، سمع من القاضي عبد الوهاب، ويُعتبر الشيرازي إمام الشافعية في زمانه، صنف في الأصول والفروع والخلاف كتباً ، وُصفت بأنها "أضحت للدنيا أنجماً" منها: "التبصرة في أصول الفقه" و"اللمع في أصول الفقه" وغير ذلك، توفي سنة (476هـ)
يُذكر عن القاضي عبد الوهاب أنه هاجر بغداد مكرها. وكانت في ذلك الوقت تعج بأتباع المذهب الشافعي، وكان القاضي عبد الوهاب قد ألف كتابا في الرد على مذهب الإمام الشافعي في بعض الأمور التي أخذها عليه، فضيق عليه الشافعية حتى اضطروه الى ترك بغداد ( وهذا من نتائج التعصب المذهبي ). ويُروى أنه قال متحسرا: ( والله يا أهل بغداد، لو وجدت عندكم رغيفا كل يوم ما فارقتكم)
وفي ذلك قال البيتين الشهيرين
بغداد دار لأهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحف في بيت زنديق.
=====